أخر الاخبار

الإكتئاب المبتسم




الإكتئاب المبتسم


االاكتئاب الباسم أو السار ٍSmiling depression:
=========================
يوجد صيغة من صيغ الاكتئاب يجتهد بموجبها من يعانون منها في إخفاء أعراض الاكتئاب بتصدير صورة خارجية أو ظاهرية عن ذواتهم مفادها أنهم سعداء وراضون عن حياته على الرغم من أن تكوينهم النفسي الداخلي مفعم بالتعاسة وبؤس الوجود، وقد تعرف هذه الصيغة باسم الاكتئاب المُقَنعُ أو الاكتئاب الباسم أو السار، والغريب أن مثل هذه الصيغة من الاكتئاب قد تفضي مع استدامتها إلى فقدان الشخص لحياته بالمعنى النفسي، بل قد نجده هكذا فجأة وبدون سوابق واضحة أو ظاهرة أو حتى مفهومة لمن حوله يقدم على إنهاء حياته.
وجدير بالإشارة إلى أنّ "الاكتئاب الباسم" ليس مصطلحًا فنيًا علميًا يستخدمه الاختصاصيون النفسيين في المجال، إلا أن المتعارف عليه أن من يعانون من الاكتئاب الباسم بالرغم من احتلال التعاسة والبؤس وكرب الوجود على بنيتهم النفسية الداخلية يظلون بصورة عامة على اتصال مباشر مع الحياة ويمارسون مهام وأنشطة الحياة اليومية بصورة طبيعية، بل ربما يحققون منجزات حياتية مقدرة وذات أثر بادٍ في إسعاد الآخرين وتجويد نوعية حياتهم، ويفعلون هذا الأمر وفقًا لاعتقادات معرفية لديهم مفادها أن الآخرين لا ذنب لهم في تحميلهم متاعبنا أو تعاستنا الذاتية؛ وبالتالي يتقنون رسم ملامح السعادة على وجوههم ومن هنا جاءت تسمية هذه الصيغة من الاكتئاب باسم الاكتئاب الباسم smiling depression.
ولتقريب صورة الاكتئاب الباسم إلى المجال الأكاديمي والكلينيكي استخدمت طالبة دكتوراه الفلسفة بجامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة أوليفيا ريميس Olivia Remes مصطلحًا فنيًا يعرفه الكلينيكيون هو مصطلح "الاكتئاب غير النمطي 'atypical depression'".
وفيما رأت أوليفيا ريميس Olivia Remes أنّ نسبة كبيرة من الناس يعانون من خبرة هبوط في روحهم المعنوية وانخفاض جوهري في حالتهم المزاجية ويفقدون شغفهم واهتمامهم بالأنشطة السارة أو المبهجة وتمثل هذه الأعراض العلامات الكبرى أو العامة للاكتئاب، ومع ذلك ينجحون في إخفاء أعراضهم بارتداء عباءة الوجه الباسم أو المبتهج والتبدي في ثوب الإقبال والترحيب بالحياة.
وهو أمر عبر عنه د. جرانت بلاشكي Dr Grant Blashki باستخدام مصطلح "فيما وراء الكآبة Beyond Blue"، كحالة يبدي فيها من يعانون من الاكتئاب وجهًا باسمًا والادعاء بأن كل شيء على ما يرام، على الرغم من أنهم داخليًا لا يتوقفون عن الاجترار المؤلم لأشياء سيئة، وتخنقهم مشاعر الذنب والانشغال المفعم بالهم والكدر على المستقبل، فضلاً عن استيلاء مشاعر خيبة الأمل بل وربما اليأس على تكوينهم النفسي".
ويبدو أن ذوي الاكتئاب الباسم ربما تخونهم قدرتهم على إخفاء مظاهر تعاستهم في بعض المواقف، إذ قد تجدهم فجأة وهكذا تلقائيًا في بعض المواقف المفعمة بالضغوط ينهارون ويقعون في نوبات عنيفة من البكاء وربما الغضب الشديد لأسباب تبدو غير منطقية في نظر العاديين من الناس، يضاف إلى ذلك ربما معاناتهم في أوقات معينة من حالة من الإرهاق والإعياء الشديد بسبب استدامة ممارستهم لعملية الاجترار واستدامة الانشغال بالأفكار السلبية بشكل.
وأشارت أوليفيا ريميس Olivia Remes إلى أن ذوي الاكتئاب الباسم ربما بحكم عوامل كثيرة منها على الأقل فقدانهم للمساندة الانفعالية والاجتماعية بسبب عدم اكتشاف حالاتهم من قبل الآخرين أكثر عرضة لمخاطر التفكير في الانتحار وربما الإقدام بالفعل على محاولات الانتحار بشكل يمثل فاجعة ومفاجئة غير متوقعة من المحيطين بهم.
وما يثير الاستغراب لدى من يحيط بمن يعانون من الاكتئاب الباسم تصورهم بأنه ربما لا يوجد ما يسوغ حزنهم فهم يعملون في وظائف عادية شأنهم شأن غالبية الناس ويتوافر لهم المأوي وربما لديهم أطفال وأسرة، ويبتسمون عند التفاعل معهم؛ ومع ذلك لا يمثل هذا الأمر إلا قناعًا خارجيًا ظاهريًا يرتدونه لإخفاق معاناته وتعاستهم في مسار تفاعلهم في حياتهم الاجتماعية والمهنية.
وعلى هذا الأساس فإن قصة اكتئاب من يعانون من "الاكتئاب غير النمطي أو الاكتئاب الباسم" تكمن في تكوينهم الداخلي، إذ تعتمل بنتيهم النفسية بشعور باليأس والكآبة، وفي بعض الأحيان تنتابهم أفكارًا لوضع نهاية مفاجئة لهذه الآلام التي يحرصون على أن لا يطلع عليهم أحد وفقًا لمقولة "أتألم في صمت"، ويستلهمون من هذه المقولة قوتهم على التفاعل في حياتهم اليومية الطبيعية دون أن يتلفت إليهم أحد، الأمر الذي يجعلهم أكثر عرضة لمخاطر تنفيذهم لخطة الانتحار إن قرروها أو وضعوها في حسبانهم، وهنا يكونون في حالة انتظار لما يمكن تسميته بالحدث المُفجر والذي قد يتثمل في صدمة حياتية كبرى أو حدث ضاغط غير محتمل أو إهانة شديدة أو خذلان غير متوقع.
وفسرت أوليفيا ريميس Olivia Remes هذا الأمر بإشارتها إلى أن "الاكتئاب الباسم خلافًا لصيغ الاكتئاب الأخرى التي يصاحب من يعانون منها ما يعرف بالتفكير الانتحاري لكنهم لا يمتلكون الطاقة الكافية لتنفيذه، يوجد لدى من يعاني منه قوة وطاقة للإنفاذ السلوكية لنواياه أو تفكيره الانتحاري".
وهنا يؤكد في وصف "الاكتئاب الباسم" على مقولة "التعاسة كامنة خلف الابتسامة The sadness behind the smile"، وقد يتعذر في كثير من الحالات تحديد سبب الاكتئاب الباسم، إلا أن مؤشراته تبدأ داخليًا في مرحلة مبكرة من حياة الشخص وتستمر معه لمدة طويلة من الزمن، وقد تعزى أسبابه بصفة عامة إلى عدد من العوامل منها: مشكلات العمل، انهيار العلاقات مع الآخرين، والشعور بأن الحياة تفتقد الغرض أو المغزى والمعنى.
وقد تتبدى أعراض الاكتئاب الباسم غالبًا في الشعور بالإعياء، الإفراط في الأكل، الشعور بالثقل في الأذرع والرجلين وسهولة جرح المشاعر عن التعرض للنقد أو التهميش أو الرفض، فضلاً عن توقع الإخفاق، وربما مواجهة متاعب وصعوبات في المواقف المربكة والمهينة.
وفيما يتعلق بالتغلب على الاكتئاب الباسم أو حالة الظلام النفسي وفقًا لتعبير أوليفيا ريميس Olivia Remes، وجد أن كثير ممن يعانون منه لا يسعون لطلب المساعدة المهنية المتخصصة بل قد لا يلجئون للمقربين منهم والإفصاح إليهم عن ما يعانون منه، ربما لكونهم يعتقدون أن لا مشكلة حقيقية توجد لديهم، والغريب كذلك أن من يعانون من الاكتئاب الباسم قد يشعرون بالذنب والخزي من الذات ربما لتصورهم عدم وجود مسوغات لحزنهم وتعاستهم؛ وبالتالي يحجمون عن إخبار أي أحد بمشكلاتهم، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم أعراض الاكتئاب على المستوى الداخلي إلى أن يأتي الموقف الكاشف أو الضاغط ربما بعد فوات الأوان في كثيرٍ من الحالات.
وأفاد د. جرانت بلاشكي Dr Grant Blashki أن الخطوة الأولى في التغلب على الاكتئاب الباسم أن يكون الشخص رفيقًا بذاته، ومن هنا تأتي أهمية العلاج النفسي القائم على الشفقة بالذات Self- Compassion based therapy، فغالبًا ما يسيطر على الناس شعورًا بحتمية أن تكون أمورهم على خير، وأنه لا يتعين عليهم أن يكونوا بمثابة القدر الذي يغلي من الداخل ولا تتبدى عليه أية مؤشرات ظاهرة من الخارج.
وعلى ذلك يرى د. جرانت بلاشكي Dr Grant Blashki أن على ما يعانون من الاكتئاب الباسم السعي لطلب المساعدة العلاجية المهنية المتخصصة باللجوء لطبيب نفسي أو اختصاصي علاج نفسي لإتاحة فرصًا إنسانية للإعراب عن الذات والإفصاح عنها بصورة تلقائية في مناخ علاجي قائم على التقبل ومفعم بالتوجه نحو تنمية التسامح مع الذات.
ويوجد طرائق علاجية كثيرة أخرى لعلاج الاكتئاب الباسم منها العلاجات النفسية الهادفة إلى تغيير أسلوب الحياة، والتدريبات الرياضية، والنظام الغذائي المناسب، واليقظة العقلية، فضلاً عن الأدوية النفسية.
وفي نفس السياق أكدت أوليفيا ريميس Olivia Remes على أن تمكين من يعانون من الاكتئاب الباسم على إيجاد معنى الحياة واكتشاف معنى ومغزى حياتهم الشخصية فيما يعرف بالعلاج القائم على المعنى أمرًا بالغ الأهمية في هذا الصدد، وأشارت إلى أنه يمكن للشخص اكتشاف غرض ومغزي وقيمة لحياته إذا تمكن من صرف انتباهه من التمركز حول الذات إلى الاطلاع على ما هو متاح في البيئة من فرص لترقية الذات؛ وبالتالي فإن تمكين الشخص من "وضع أهداف" شخصية مقدرة في الحياة وتحفيزه على المثابرة والاجتهاد في مسار تحقيقها يحدث تأثيرات إيجابية على بنيته النفسية ويخلصه من كثير من ملامح الاكتئاب الباسم.
للمزيد:
====
(1) Gillian Wolski (2019). Why The Happiest Person In Your Life Could Actually Be The Most Depressed: https://10daily.com.au/…/why-the-happiest-person-in-your-li…
(2) إيلي أيوب (2019). "الاكتئاب السار" : حينما تكون البسمة قناعا مزيّفا لاكتئاب عميق:
---من طرف:د- محمد السعيد أبو حلاوة
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-