أخر الاخبار

لماذا تسجننا العلاقات السامة؟ - 1 - المثالية والخوف من الرفض

 

لماذا تسجننا العلاقات السامة Toxic relationship ؟!

مقدمة

يقول الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي (1):

"عندما تصل مراعاة مشاعر الأخرين إلى إيذاء نفسك.. توقف فورا"

هناك مثل نطرحه دائماً دون أن ننتبه أنه ينطبق علينا نحن شخصياً أو الكثير من الناس حولنا وهو "القط يحب خانقه".

هل فعلا البشر يحبون من يؤذي مشاعرهم ولا يعاملهم باللطافة المطلوبة؟! هل البشر يطيلون التعلق بالعلاقات السامة Toxic relationship؟

والحقيقة أنني أنا وأنتم لا احتاج في هذا المقال سوى بعض الصدق مع النفس، الصدق مع النفس ومراقبتها هي الأساس، إذا كنت لا تعرف نفسك، فستصعب المهمة على من يحاول أن يعرفك!، ومن ثم سيستمر الناس بإساءة فهمك! ومن ثم إساءة معاملتك، إساءة الظن بك.

إننا في هذه السلسلة لن نوجه الكلام فقط لك ولي، بل لنا، للجميع، لا تعامل الأمر على أنه بحث علمي جامد حيادي، بل إنه بحث منحاز لك أنت، ممزوج بخبرتك اليومية، ستراه في الناس وقد تمر به أنت.

لنبدأ بالمثال الأول في العلاقات السامة التي ترغمنا على التعلق بها:

1)  المثالية والخوف من الرفض

هناك شاب تعرف على فتاة، قابلها مرات قليلة بالصدفة، لكن أغلب كلامهم كان على الانترنيت، علاقتهم استمرت سنتين كصداقة كتابية على الانترنيت قبل أن يشعر أنه فعلا بدأ يحبها، بدأ يتعلق بها.

تلك الفتاة وجد فيها صفات المرأة المثالية، هي مثقفة وهو يحلم أن يرتبط بفتاة مثقفة، تهتم بنفس اهتماماته الثقافية، يتشاركون الكثير من الآراء، بل أنهم لم يختلفوا أبداً من قبل..

جميلة، عمرها قريب من عمره وهو هذا ما كان يحلم به، باختصار.. انها فتاته المثالية، توأم روحه الذي خلق لأجله، لا يوجد احتمال متصور لأن يرضى ألا تكون له.

وبعد تفكير طويل وتردد حانت لحظة الاعتراف، هذا الشاب يريد أن يعترف بحبه أخيراً بعد هذه السنين، لكن دقيقة.. كيف سيعترف؟ هل من خلال كتابة قصيدة مثلاً؟ أم من خلال مكالمة هاتفية؟ أو مثلا اعتراف عادي؟!.

بدأ يشعر بتوتر شديد، بدأ ينتابه هلع، هو خائف من أن يخرب العلاقة باعترافه هذا، هو يخاف من الرفض، لا يتقبل فكرة الرفض أبداً، بقي يفكر ويؤجل.. حتى ارتبطت تلك الفتاة بغيره، ذلك الشاب الجديد الذي ارتبطت به الفتاة يعرفها فقط منذ أسبوعين!

اعترف للفتاة ودخلوا علاقة! وهو الذي خطط أشهر كاملة للاعتراف.. لم يأخذ فرصته حتى!

هذا ليس عدلاً أليس كذلك؟! لنرى..

إن هذا الشاب فعله مبرر تماماً في علم النفس، يذكر الدكتور جوردان بيترسون في أحد محاضراته المصورة (2): أن أغلب مرضاه الذين يأتون بعلاقات من هذا النوع، يكتشف أنهم يرون الفتاة بصورة "المرأة المثالية" أو الطرف الآخر بشكل عام، هم لا يرون عيوبها بسبب طبيعة علاقتهم نفسها، فيخافون من الرفض، ثم بالتالي من الاعتراف، فيدخلون بدوامة علاقة مستنزفة سواء friend zone أو حب مخفي من طرف واحد، أو غيرها من العلاقات التي نعرف كلنا كم هي مؤذية للمشاعر.

من الممكن جداً أن تتحدث كتابياً مع شخص على الانترنيت لسنين وسنين ولا تعرف أكثر طبائعه اليومية سوءاً!، ببساطة لأنه لن يظهرها لك!

أغلب الناس على الانترنيت لا يتصرفون بسلوكهم الحقيقي 100%، وعلى سبيل المثال لا الحصر أن هناك أبحاث رصدت أن الناس بشكل عام تتصرف بشكل أكثر عدوانية على وسائل التواصل الاجتماعي كلما ارتفعت نسبة ادمانهم لها. (3)

وكذلك فإن كثير من الناس سينقل لك صورة مثالية عن نفسه غير موجودة بالواقع وهو شخصيا يتمنى تقمصها، ستبقى طوال الوقت تكلم تلك الفتاة وتتخيلها بصورة مثالية، لن تراها حين تستيقظ، ولا كيف تبدو في حياتها اليومية بدون مساحيق المكياج أو فلاتر السناب شات.

وهذا ما سيدفعك للاعتقاد بأنها الفتاة المثالية فعلا!، حتى إن رصدت عليها بعض الأخطاء فإنها صغيرة جداً بمقابل الصورة المثالية التي رسمتها في مخيلتك، بالمناسبة هذه استراتيجية نفسية مشهورة مجتمعياً، وهي رسم صورة عن العائلة أو عن الفرد أنه مثالي من خلال التظاهر أمام الناس بذلك، بما يسمى بلهجتي العامية "الفخفخة، أو مثل أدق (من برا رخام ومن جوا صخام)" فمثلا هو ليس عنده مشكلة من أن يكذب أولاده أو يتصرفوا بقلة أدب بشرط، أن لا يكون ذلك التصرف أمام الجيران، بل يكون بالمنزل دون أن يدري أحد، بالمختصر نوعية من التضليل الإعلامي صغير المستوى!..

وبمجرد كونك تتصور تلك الفتاة على أنها مثالية فهذا يعني أمرين يمكننا استنباطهم معاً:

• اعتقادك أنها مثالية سينعكس حتماً على سلوكك ومشاعرك تجاهها، مما سيشعرها بأنها أعلى منك وأنت من تتمناها لا العكس، لن تكون العلاقة متكافئة بل ستكون أنت الطرف الضعيف بها وهذا يقودنا للاستنباط الثاني مباشرة.

• أنك ستخاف من أن ترفضك، فبما أنها مثالية فهذا السبب الأول لخوفك من أن تضيعها ومن أن ترفضك وتتدمر العلاقة، والسبب الثاني هو أنك بشكل لا واعي برمجت العلاقة على أن تكون أنت الطرف الأضعف فيها وهي الطرف المتفوق الذي يرفض ويقبل ويقيم الطرف الآخر ويعطيه وسام النجاح!، وهي كذلك ستنتبه على ذلك من خلال تصرفاتك، وازيدك أن البشر عندهم نزعة تجعلهم يميلون لحب "الثقيل" الذي يصعب على الجنس الآخر اغرائه، فهم يرون فيه اتزان وعقلانية وعدم تسرع ولا يخافون أن يخونهم بالمستقبل مع فتاة أخرى.

فالآن أنت أمامك عدة مشاكل تتراكم عليك سنحاول استنباطها باختصار:

• تراها مثالية وهذا اعتقاد باطل حيث إنه لا يوجد أنسان كامل ومثالي لهذه الدرجة التي تتصورها في ذلك الشخص.

• سلوكياتك ستجعلها تنتبه أنك تراها مثالية وتخاف من ان تفقدها، وستشعرها بالتفوق.

• إذا كانت تفكر بطريقة "الارتباط الفوقي hypergamy" (4) فسترفضك لأنك جعلتها تحكم بأنها هي المتفوقة وستبحث عن من يتفوق عليها حتى تستفيد من هذا الارتباط ولا يكون عديم جدوى.

• أو أنها ستكون نرجسية تحب أن تدخل علاقة تتفوق فيها على الطرف الآخر لكنها ستبقى تتحكم بزمام أمور العلاقة وستكون العلاقة جداً سامة حيث أن لا أحد فينا يستمتع إن دخل في علاقة آمر ومأمور، علاقة هشة غير آمنة (5)

• لأنك تراها مثالية وتخاف من أن تضيعها وبالتالي (الشخص المثالي يستحق معاملة مثالية) ستصبح تتعامل معها بطريقة لطيفة زائدة عن اللازم friendly حتى تظهر وكأنك ضعيف الشخصية ومنقاد ولذلك لن ترى فيك الرجل الذي سيحميها مما سيفتح الباب لأن تضعك friend zone وترتبط بشخص bad boy  قوي الشخصية وثقيل المشاعر (6) (7) (8)

كيف يتصرف من يعانون من خوف الرفض مع مثل هذه العلاقات السامة؟

لن يعترف وسيبقى على أمل أن يعترف له الطرف الآخر إن قدر له ووقع بحبه هو كذلك، ستبقى العلاقة تستنزفه ويبقى متعلقاً بها لأنه يرى الطرف الآخر مثالي يستحق التضحية، سيضحي لأجل سراب لأنه لم يعترف بما يريد، فكيف تضحي من أجل حبك لفتاة قبل أن تعترف لها؟ فرضاً اعترفت لها ورفضتك؟ ستذهب كل تضحياتك ولطافتك سدى..

المشكلة أنك هنا أنت بنفسك تنشأ الـ friend zone التي ستنحشر بها بالمستقبل، لأنك تخرق قواعد الصداقة حين تتصرف كحبيب وأنت تعرف العلاقة أمامها على أنها علاقة صداقة، فهي ستتعامل على أن هذه معاملتك مع اصدقائك بشكل عام، ستسيء فهم تصرفاتك وهذا بسبب القاعدة التي ذكرتها بأول المقال وهي:

" إذا كنت لا تعرف نفسك، فستصعب المهمة على من يحاول أن يعرفك!، ومن ثم سيستمر الناس بإساءة فهمك! ومن ثم إساءة معاملتك، إساءة الظن بك."

بسبب أن العلاقة غامضة فهي حتماً ستسيء فهمها، فأنت صديق تتصرف كحبيب، أنت من تخترق حدود الصداقة دون أن تعترف بأن هذا حب، بل أنك تحول تصرفات الحب وكلام الحب وتضحيات الحب إلى صداقة، تحشر كل هذه المعاني داخل دائرة الصداقة، فماذا يسمى هذا إلا الـ friend zone؟

إذا أنت من تسببت بتخريب العلاقة دون أن تشعر فقط بخوفك من الرفض.

كذلك قد ترتبط الفتاة بشخص آخر لأنك لم تعترف لها!، ولن تستطيع لومها.

بختام هذا المثال الذي قد أفصل به أكثر في مقالات قادمة لو أردتم ذلك، فإنني سألخص هذه العلاقة بمعادلة:

(علاقة لا تستطيع رؤية عيوب الطرف الآخر فيها > تظن أنه مثالي > تعامله على أنه مثالي وتشعره بالتفوق > تصبح أنت الطرف الأضعف في العلاقة > تخاف من أن تعترفه فيرفضك ويضيع شخص مثالي من يدك > تدخل في دائرة friend zone أو يرتبط هو بشخص آخر أو تحبه من طرف واحد وتخاف ان تخبره أو تدخل بأي علاقة سامة أخرى > تتعلق بهذه العلاقة جدا بمدى نسبة تعلقك بهذا الشخص المثالي ولا تستطيع الخروج من تلك العلاقة السامة)

سنكمل الحديث بمقال قادم إن شاء الله حتى لا أطيل أكثر، الأرقام الموجودة بالمقال هي إحالات لأبحاث ومقالات أخرى تفيدكم في هذا الباب تجدونها بأول تعليق على هذا المقال.

المثال المذكور للتوضيح لا للحصر، ليس مقصود به جنس محدد بعينه إنما هو فقط مثال لهذه النوعية من العلاقات وهو نفس المثال الذي طرحه الدكتور جوردان بيترسون حين تحدث عن هذا الأمر.

أشكركم على القراءة أعزائي الكرام وعزيزاتي الدرر


المصادر والإحالات: -

(1)فيودور دوستويفسكي هو روائي وأديب روسي شهير (https://www.hekams.com/?id=23706)

(2)        جُورْدَن بِيتَرْسَن (بالإنجليزية: Jordan Peterson)‏ عالم نفس سريري ومفكر كندي وبروفيسور علم النفس في جامعة تورنتو. اختصَّ في علم النفس اللاقياسي وعلم النفس الاجتماعي وعلم نفس الشخصية، مع اهتمام خاص بعلم نفس الأديان وأيديولوجيا الإيمان وتقييم وتحسين الشخصية والأداء وظيفي. https://www.youtube.com/watch?v=GNfq4Z30khs

(3)        https://www.psychiatrictimes.com/view/-internet-made-me-do-itsocial-media-and-potential-violence-adolescents

(4) https://www.facebook.com/Psychooside/posts/3319711648150864

(5)  https://www.facebook.com/Psychooside/posts/3297087627079933

(6)   https://www.facebook.com/Psychooside/posts/3302184213236941

(7)     https://www.facebook.com/Psychooside/posts/3310467205741975

(8)     https://www.facebook.com/Psychooside/posts/3307213996067296

#غيث_الحلبية

#الجانب_النفسي

#العلاقات_السامة


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-