اليأس الاستشفائي.
"لا آمل في شيء، لا أخشى شيئًا .. أنا حرّ"
نُقشت هذه العبارة للأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس على قبره في جزيرة كريت.
ما الذي يجعل شخص ينقش هكذا عبارة على قبره دون غيرها ؟ لقد اشغلتني هذه العبارة منذ أن قرأتها وأخذت ابحث في معنى( الامل ) والى اية درجة نحن مبتلعين لدور الامل، وكم من شخص حياته قائمة على الامل، ولكن هل الامل فعلا يحررنا! ام انه الوجه الاخر للقيد ام انه يحمل في طياته اغلال وقيود ويسوقها الينا بأنه الخلاص الاخير وانه الملجئ الوحيد هل فكرنا يومنا بمدى عمق تعلقنا بالامل ؟ وكم نحن عبيد لفكرة الامل ؟ اريد ان نبحث في معنى الامل ونفك حروفه ونرى خلف مكنوناته هل هو بهذا السحر ام انه يحمل الالم ولكن بوجه مختلف ؟!
إن الامل ينسينا ما قد كان الان ومانعيشه الان ،لما سيكون غداً وقد لايكون ابداً ...
إن الامل الزائد المخالف للواقع يجعلنا نعيش في عالم خيالي وردي وعندما لايتحقق ما حلمنا به نشعر بخيبة امل كبيرة .
المشكلة هي ان الناس قد ذهبوا في هذا الاتجاه الى ابعد مايكون لقد قدسوا مشاعرهم ، وذهبوا الى حالة متطرفة من الامل ، مما ادى الى فرط التساهل مع المشاعر والانفعالات .
يقوم دماغنا بتغليف الواقع بطريقة تجعلنا مقتنعين بأن ما لدينا من مشكلات ومن ألم شيء خاص فريد من نوعه في العالم كله ، وذلك على الرغم من الأدلة الكثيرة التي تشير إلى عکس هذا . إن بني البشر في حاجة إلى هذا المستوى من النرجسية المتأصلة ، لأن النرجسية هي خط الدفاع الأخير في مواجهة الحقيقة غير المريحة . فلنكن واقعيين : الناس سيئون ؛ والحياة تزداد صعوبة واستعصاء على التوقع . فإذا لم يكن لدينا اعتقاد زائف بأننا متفوقون ( أو بأننا أقل مستوى ) ، وإذا لم يكن لدينا إعتقاد بأننا ممتازون في شيء ما ، فسوف نلقي بأنفسنا من فوق أقرب جسر . من غير قدر طفيف من ذلك الوهم النرجسي ، ومن غير كذبة خصوصيتنا التي نقولها لنفسنا دائما ، فمن المحتمل كثيرا أن نفقد أي أمل . وسواء كنت ترى نفسك أفضل من في العالم ، أو أسوأ من في العالم ، فإن هناك شيئا صحيحا واحداً : أنت منفصل عن العالم . وهذا الانفصال هو ما يديم المعاناة التي لا ضرورة لها. عندما تنظر لنفسك نظرة عادية واقعية تختلف موازين الامور .
يمكن التعبير عن الأمر بطريقة أخرى والقول إن المشكلة ليست كامنة في کوننا لا نعرف كيف نتجنب أن تصيبنا لكمة في الوجه ، المشكلة دائما أننا ، في لحظة سابقة يحتمل أن نكون قد عشناها منذ زمن بعيد ، قد تلقينا لكمة في الوجه . وبدلا من أن نرد عليها بلكمة مثلها ، قررنا أننا نستحق تلك اللكمة التي أصابتنا .وان نعيش خسائرنا وان نتقبلها وان نتخلص من فكرة الامل الزائف والعيش الكامل مع الصدمة والتشرب بها وان نعيش اليأس الذي يأخذ بالانسان لمرحلة التقبل وتجاوز الصدمة ،وان لانحاول تلوين الصدمة بتخفيفها بأمال زائفة .
عندما نكف عن تقييم شيء من الأشياء تقييما عاليا ، فإنه يكف عن كونه مصدر متعة لنا أو عن كونه مثيرا لاهتمامنا .من هنا ، فإن الأمر يخلو تماما من أي إحساس بالخسارة ؛ ولا نشعر بأننا فقدنا شيئا عندما نكف عن فعله ، على العكس من هذا ، نجد أنفسنا ننظر إلى الماضي ونعجب مما جعلنا ننفق ذلك الوقت كله ، ونعجب مما جعلنا ننفق ذلك القدر كله من الطاقة على أمور لا أهمية لها.
إن القيمة الذاتية المرتفعة والقيمة الذاتية المتدنية تبدوان مختلفتين عند النظر إليهما من الخارج ، لكنهما وجهان لعملة مزيفة واحدة . فسواء كنت ترى أنك أفضل من بقية الناس ، أو أسوأ من بقية الناس ، فإن الأمر نفسه يظل صحيحا : أنت تتخيل نفسك شيئا خاصا ، شيئا منفصلا عن بقية العالم . فالشخص الذي يكون مقتنعا بأنه يستحق معاملة خاصة لأنه شخص عظیم لیس مختلفا كثيرا عن شخص يرى أنه يستحق معاملة خاصة لأنه سيئ ووضيع . إنهما شخصان نرجسيان يظن كل منهما أنه حالة خاصة . يظن كل من هذين الاثنين أن العالم يقبل استثناءهما وأن يستجيب الى قيمهما ومشاعرهما ومعاملتهم معاملة خاصة، وإن جميع هذه الحالات تؤدي للأمل الزائف وعدم تقبل حقيقة الامور وحقيقة الواقع الحاصل .
فلنتوقف الآن لحظة واحدة . ولكن الشخص الذي يبلغك بالخبر السيئ! الألم البشري يشبه لعبة من الألعاب الإلكترونية ، كلما نجحت في التخلص من نوع من أنواع ذلك الألم ، ظهر لك نوع جديد . وكلما كنت أسرع في التخلص من تلك الآلام تباعا ، كلما صار مجيئها إليك أكثر سرعة . قد يتحسن الألم ، وقد يتغير شكله ، وقد يكون أقل كارثية في كل مرة . لكنه سيظل موجودا ، إنه جزء منا .
لذلك وذلك أن العيش الجيد لا يعني تجنب المعاناة ، بل هو يعني المعاناة لأسباب وجيهة . وإذا كنا مضطرين إلى المعاناة من خلال وجودنا في حد ذاته ، فيجب علينا أن نتعلم كيف نعاني بطريقة جيدة .
الألم هو العملة التي تقاس بها قيمنا ،الألم هو جوهر المشاعر كلها ، وعندما نتمكن من تجنب الألم ، فإننا نجعل من أنفسنا أكثر هشاشة ، فتكون النتيجة أن تصبح ردود أفعالنا الشعورية تجاه حدث من الأحداث غير متناسبة على الإطلاق مع أهمية ذلك الحدث .
إن وضع الامور بميزانها وعيش اللحظة كما هي وتقبل الالم والمعاناة والكف عن الشعور الزائف بمتعة الامل الزائف هو بوابة لقوة عظيمة وتحرر عظيم ورؤية صحيحة لواقعنا وإستشفاء بقوة حقيقة تخرجنا وتحررنا من اغلال عالقة بروحنا .
وأختتم مقالي بقول سيدنا جلال الدين الرومي :
هناك الكثير من الامل،في غياب الامل .
-- بقلم :خلود ابوارشيد.